السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قبل الأسر لم تكن أسماؤهم معروفة، ولا جنسياتهم ولا وجوههم ولا أصواتهم ولا كلماتهم. كانوا أشباحا، اخترقوا عتم الليالي الحالكة، يوم يهل الهلال الأول. اتبعوا دروبا شائكة في البر والبحر والجبال، واختاروا المعركة وجها لوجه، مع عدوهم.. حتى وقعوا شهداء أو أسرى وما بدلوا تبديلا.
بعد الأسر والاستشهاد، انكشفت أسماؤهم. صاروا رموزا وأعلاما ومفخرة لأوطانهم وشعوبهم. أما وجوههم وأصواتهم وكلماتهم.. فقد أضحت حكايات وشعارات وصورا...
عبر الدروب نفسها عادوا.. من فلسطين الى لبنان هذه المرة وليس العكس. أطلوا في عز اكتمال البدر التموزي... كان نهار لبنان نهارهم بامتياز، وصاروا معه أنهارا لكل العرب.
من أزمنة مقاومة مختلفة ذهبوا. انتظروا طويلا، حتى جاءهم زمن مقاوم، استثنائي، جديد، نوعي، استعادهم جميعا، حتى صار يحق لمن مر فيه أن يجاهر بالانتماء إليه... أن يرفع رأسه بمقاومته، بالأسرى المحررين، يتقدمهم »عميدهم« سمير القنطار، وبالشهداء العائدين وعلى رأسهم »أميرة الشهداء« المناضلة الشهيدة دلال المغربي.
السادس عشر من تموز ،٢٠٠٨ يوم تاريخي، توحيدي، تراجعت فيه عناوين الانقسام، لتتلاقى الوحدة الوطنية فيه، عنوانا ونوايا، من الصورة التذكارية لحكومة الوحدة الوطنية في القصر الجمهوري صباحا، الى وديعة الأحياء والشهداء العائدين من فلسطين الى كل لبنان وفلسطين، عصرا، الى الاستقبال الرسمي والوطني الجامع في مطار رفيق الحريري الدولي وما تضمنه من خطاب مقاوم ومتماسك لرئيس الجمهورية ميشال سليمان، وصولا الى الخطاب الانفتاحي، للأمين العام لـ«حزب الله« السيد حسن نصر الله، وإعلانه جهوزية الحزب للتعاون في كل الملفات في حكومة الوحدة الوطنية بما يخدم المصلحة الوطنية العليا.
السادس عشر من تموز، يمكن أن يبقى يوما عابرا اذا حوصرت النوايا والعناوين، ويمكن له أن يتحول الى يوم تأسيسي بكل معنى الكلمة، اذا اقترنت الأقوال بالأفعال، باتجاه استعادة مناخ الثقة الداخلية أولا، ومن ثم الاستجابة لمتطلبات المصلحة الوطنية العليا، حتى يكتمل بذلك »بدر التموزين« سياسيا، وخاصة في حكومة الوحدة الوطنية ، باستحقاق بيانها الوزاري، ومن ثم بمناخ الثقة النيابية في الأسبوع المقبل، وكذلك في المرحلة الجديدة التي دخلتها العلاقات اللبنانية السورية بعد قمة باريس الرباعية، وهي ستسلك منحى جديدا في ضوء الزيارة المرتقبة لوزير خارجية سوريا وليد المعلم مطلع الأسبوع المقبل الى بيروت، لتسليم دعوة رسمية للرئيس اللبناني للقاء نظيره السوري بشار الأسد تمهيدا لإصدار أول إعلان تاريخي مشترك حول إقامة العلاقات الدبلوماسية.
ماذا في التفاصيل المتعلقة بعملية الإفراج عن الأسرى اللبنانيين الخمسة وعن جثامين الشهداء المقاومين؟
بينما كانت أجواء الفرح والانتصار تعم لبنان، كانت إسرائيل تعيش يوما أسود بكل معنى الكلمة، لعله الأفدح والأصعب والأكثر إيلاما، بعد الأيام الثلاثة والثلاثين التي عاشتها إبان »حرب تموز« .٢٠٠٦
فقد أفاق الإسرائيليون على صدمة الصور الأولى التي بثتها قناة »المنار« ومن خلالها معظم الفضائيات اللبنانية والعربية والعالمية، وكذلك القناة الأولى والعاشرة في التلفزيون الإسرائيلي، للجنديين الإسرائيليين اللذين سلمهما مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في »حزب الله« الحاج وفيق صفا الى اللجنة الدولية للصليب الأحمر وممثل الأمين العام للأمم المتحدة غيرهارد كونراد، جثتين هامدتين، وضعتا في صندوقين أسودين.
وقد حاول الإسرائيليون من خلال الإجراءات التقنية المتعلقة بكشف المصير وعملية نقل الأسرى وجثامين الشهداء، تأخير عملية التبادل، طمعا بحلول المساء ومحاولة تفادي الصورة التي حضّر لها »حزب الله« جيدا على مدى الأسابيع الأخيرة، لكن ما أن أزفت الساعة الخامسة وعشرين دقيقة من عصر أمس، حتى أطل بطل عملية نهاريا وعميد الأسرى اللبنانيين والعرب في السجون الإسرائيلية سمير القنطار رافعا شارة النصر، بعد أسر دام ٢٩ عاما ومعه أربعة من أبطال عملية »الوعد الصادق« في تموز ٢٠٠٦: خضر زيدان وماهر كوراني وحسين سليمان ومحمد سرور.
وقد أقيمت للعائدين مراسم تكريمية احتفالية متقنة، في البر والبحر، ميزتها إطلالتهم بالبزات العسكرية المرقطة التي صنعت خصيصا لهم وعلى صدر كل واحدة منها اسم صاحبها، وقد سبق وصول الأسرى الخمسة تسليم جثامين ثمانية شهداء مقاومين من شهداء »حرب تموز« (بقي تاسع في خانة المفقودين) ورفات أربعة شهداء من مجموعة الشهيدة دلال المغربي، بينهم جثمانها... وتلى وصول الأسرى عبور شاحنات الصليب الأحمر التي حملت جثامين أكثر من مئة وثمانين شهيدا عربيا سيصار الى نقلهم اليوم باتجاه العاصمة.
ومن الناقورة، انتقل الأسرى الخمسة يرافقهم وفيق صفا ومدير عام الأمن العام اللواء وفيق جزيني ومسؤول مخابرات الجيش اللبناني العقيد عباس ابراهيم ونائب مدير المخابرات في قيادة الجيش العميد عبد الرحمن شحيتلي الى بيروت، عبر مروحيات تابعة للجيش اللبناني والأمم المتحدة.
وقد احتشد لبنان الرسمي في مطار رفيق الحريري لاستقبال الأسرى المحررين، وتقدم الجضور الرؤساء ميشال سليمان ونبيه بري وفؤاد السنيورة، ومعظم وزراء حكومة الوحدة الوطنية وحشد من النواب تقدمهم رئيس كتلة المستقبل النائب سعد الحريري، فيما كان ذوو المحررين ينتظرون في قاعة الشرف، ومع وصول المروحيات التي أقلت المحررين من الناقورة، اصطفوا على منصة رسمية، واستمعوا الى كلمة رئيس الجمهورية.
وقال الرئيس سليمان »إذ قلت ورددت إن فرحة تحرير الجنوب من الاحتلال لن تكتمل إلا بعودة الأسرى والمعتقلين، أقول اليوم أكثر: فرحتنا تبلغ أوجها حين يستعيد لبنان سيادته الكاملة على أرضه في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. وأؤكد أمامكم مجدداً أن من حق لبنان استرجاع ما تبقى من أرضه المحتلة بكل الوسائل المتاحة والمشروعة وهذا حق تكرسه القوانين الدولية ولن نتنازل عنه. تماماً كما نتمسك بحق عودة الفلسطينيين إلى أرضهم، الذي تضمنه قرارات الأمم المتحدة«.
وأضاف »مفعول التحرير لا يكتمل اذا ظلت إسرائيل تحتل أرضنا بالألغام والقنابل العنقودية. والخطر، كل الخطر، من ألغام من نوع آخر تحاول إسرائيل زرعها عبر الفتنة في الداخل، فتحصد بذلك بتشرذمنا، ما لم تستطع ان تحققه بالنار والاحتلال والأسر والتدمير. وواجبنا أن نكون سداً لها في وعينا ووحدتنا، كما كنا سداً في مقاومتنا وتشبثنا بالأرض والحق«. وبعد مصافحة المستقبلين الرسميين توجه المحررون لمقابلة أهاليهم وعائلاتهم، وكانت دقائق مؤثرة، من العناق والبكاء، خاصة بين القنطار ووالدته وأشقائه.
ومن المطار، انتقل الأسرى الى ملعب الراية في الضاحية الجنوبية، في موكب سيار استقبله عشرات آلاف المواطنين على جنبات الطرق، واخترق الشوارع الداخلية للضاحية الجنوبية بصعوبة كبيرة.
ووسط حشد ضم مئات الآلاف في ملعب الراية واختلطت فيه أعلام لبنان وفلسطين وكذلك أعلام »حزب الله« وباقي الأحزاب والقوى اللبنانية التي انخرطت في مراحل مختلفة في المقاومة، وبعد دقائق من اعتلاء الأسرى الخمسة منصة الاحتفال، وصل السيد حسن نصر الله، في ظل إجراءات أمنية مشددة حيث حيا الجمهور وصافح وعانق الأسرى، قبل أن يرتجل كلمة قال فيها إن زمن الهزائم قد ولى وجاء زمن الانتصارات ولبنان لا يمكن أن تلحق به هزيمة بعد الآن.
مسافة زمنية قصيرة على مغادرة السيد نصر الله، ألقى سمير القنطار كلمة مرتجلة، قوطعت مرارا بالتصفيق والهتاف، واستذكر فيها كل الشهداء الذين سقطوا، خاصاً السيد عباس الموسوي والشيخ راغب حرب والقائد عماد مغنية، ووجه تحية خاصة الى رئيس لبنان المقاوم إميل لحود (الذي كان أول السياسيين الواصلين الى ملعب الراية). ودعا الفصائل الفلسطينية الى الوحدة على قاعدة برنامج أساسي واحد ووحدة الأهداف المقاومة القادرة على تحقيق النصر. وبعد انتهاء كلمة القنطار أطل السيد نصر الله عبر شاشة عملاقة، وتحدث الى الأسرى واللبنانيين والعرب في خطاب استحضر فيه تضحيات كل المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب الذين سبقوا »حزب الله«، وقال إن هذا التراكم والاستمرارية يدلان أن الهوية الحقيقية والأصلية والراسخة والثابتة لمنطقتنا وأمتنا هي هوية وإرادة وثقافة المقاومة، وأن راية المقاومة لا تسقط بل تنتقل من يد الى يد تأكيدا لذلك الجوهر الحقيقي المقاوم.
وتناول نصر الله قضية الأسرى الفلسطينيين والعرب وقال انه من غير الجائز أن ينفض العالم يده منهم، متحدثا عن رسالة بعث بها الى الأمين العام للأمم المتحدة في ما يخص الأسرى الفلسطينيين الذين سيطلق سراحهم بعد فترة ضمن صفقة التبادل.
وأعلن نصر الله أننا نصر من الآن وصاعدا على أن تشارك الدولة وكل الفرقاء في حماية البلد، وقال إننا سنطالب كل الفرقاء بالمشاركة هذه ومن يتخلف عن ذلك يكن خائنا.
وقال السيد نصر الله إننا جاهزون للتعاون في مناقشة كل الملفات ومنفتحون على مناقشة الاستراتيجية الدفاعية، أضاف ان لبنان وطن جدير بأن يضحي الإنسان بدمه وأولاده من أجل رفعته وكرامته.
وإذ أيد نصر الله كل كلمة وردت في خطاب رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان في استقبال الأسرى في مطار بيروت، أكد على وجوب لم الشمل وتجاوز الحساسيات، داعيا الى الاستفادة من الفرصة الجديدة المتاحة أمام الجميع من أجل معالجة كافة المشاكل.
وقال إن لا أحد يدخل الى الحكومة من أجل أن يكايد أو يناكف أو يعطل، الجميع يدخلها من أجل أن يشارك في شكل فعّال وجاد في حل مشكلات البلد الأساسية.
في المواقف، رحب رئيس كتلة المستقبل النائب سعد الحريري بعودة الأسرى، ودعا في بيان له، الى جعل هذه العودة مناسبة لتكريس الوحدة الوطنية بين جميع اللبنانيين، وكرر دعوته »للانطلاق بلبنان الى الأمام بالتزامن مع انطلاق عمل حكومة الوحدة الوطنية في مسيرة جديدة نسعى لكي تعّبر بالفعل عن الاسم الذي تحمله هذه الحكومة وهو ما نعمل لأجله لكي ننطلق بالوطن نحو مرحلة من الوحدة والالفة والتضامن والاستقرار«. وتوجه الحريري بالتهنئة الى جميع ذوي وعائلات الأسرى المحررين وتقدم بالتعازي من ذوي الشهداء الأبطال الذين قضوا في سبيل تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي البغيض وفي سبيل القضية المركزية الأساسية للعرب والمسلمين، قضية فلسطين.
الف مبروك النصر وتحرير الاسرى
وانشالله يبقى لبنان حافل بالاحتفالات والنصر