جميعنا نخطئ ونتسبب أحياناً بأذى الغير, وقد نتألم نتيجة الشعور بالذنب. وبالمقابل نتعرض للإساءة فنغضب ونحقد, وتصدر عنا ردّات فعل تؤثر في سلامة صحتنا وعلاقتنا بالآخرين. وفي الحالتين ننشد حلاً يرأب الصدع ويعيد إلينا التوازن, ويخلّصنا من ضغوطات المشاعر السلبية.
في قرارة أنفسنا, نعلم جيداً أن الحل يكمن بكلمة إعتذار نابعة من القلب, يقابلها شعور مماثل بالغفران. إلا أننا غالباً ما نجد صعوبة في إعتماد هذا الحل, لكبرياء في النفس, أو لرواسب أحقاد تمنعنا من الإعتراف بالخطأ أو مسامحة مرتكبيه. من هنا استأثرت هذه الناحية الإنسانية اللافتة بإهتمام الخبراء النفسيين الذين راقبوا عن كثب المعاناة الناجمة عن انعكاساتها على السلوك والمشاعر والعلاقات الإجتماعية.
ردات الفعل العفوية
الخبراء النفسيون الذين راقبوا عن كثب ردات فعل المسيء والمساء إليه العفوية, أكدوا أن الإنسان بطبعه ميّال الى تسوية الأمور لأهداف طبيعية, وتحقيق العيش الجماعي وتأمين الحماية والدعم. والإعتذار عن الخطأ, ما هو إلا إنعكاس لهذا الميل الفطري الذي غذّته مع الوقت التقاليد والأعراف الإجتماعية.
إذن, الإنسان أدرك منذ القدم بحسّه البدائي, حجم المعاناة التي تسببها الإساءة وحاول تداركها من خلال تنمية شعور الندم, ومن ثم الإعتراف لنيل الغفران.
كيف يفيد الإعتذار؟
شكّل الإعتراف ركناً من أركان الديانات القديمة, ومن بعدها الديانات السماوية التي شددت على ضرورة التكفير عن الذنوب لتطهير النفس. الى ذلك, شددت مبادئ التربية البدائية على أهمية الإعتذار من أجل تنمية الأخلاق الحسنة, وتلقين الأطفال أصول المحافظة على العلاقات العائلية والإجتماعية. ومع الوقت, اتخذ هذا المبدأ طابع المجاملة أو اللياقة, فاحتلت كلمة “أنا أعتذر” مركز الصدارة في قاموس العلاقات البشرية لمفعولها الفوري المزدوج في تهدئة الخواطر واستعادة الإطمئنان.
فهذه العبارة البسيطة المقتضبة, وإن عجزت أحياناً عن محو آثار الجرح الناجم عن الإساءة, فهي على الأقل قادرة على التحكّم بآلام هذا الجرح وتخفيفها, ما يسمح بالتئامه التدريجي.
أين يكمن السحر في هذه العبارة؟
لتعميم الفوائد الناجمة عن الإقرار بالذنب من جهة, والغفران من جهة أخرى, قام الإختصاصيون بدراسة إنعكاسات آلية الإعتذار المزدوجة على الصحة الجسدية والعقلية, بالإضافة الى الإستقرار الإجتماعي.
ولإضفاء العمق على هذه الدراسة, تجاوز الإختصاصيون المجاملة التقليدية أو تطبيب الخواطر, الى أبعاد إنسانية لا بد من الإشارة إليها.
فعندما يتعرّض أحدنا للإساءة, يشعر وكأنه مهدد ومجرد من الإعتبار, فيخاف وينتابه الشعور بالنقص. ولتغطية هذه المشاعر, يتدفق في جسمه هرمون الكورتيزول, فيتوتر ويغضب وتسيطر عليه مشاعر العدائية. وهي مشاعر تتسبب بإرتفاع ضغط الدم وزيادة وتيرة التنفس ودقات القلب. وفي حال عدم التمكن من الدفاع عن النفس وردّ الإساءة, تصبح هذه المشاعر ملازمة للشخصية, وتدفع بصاحبها الى العزلة والمرض.
وحسب تأكيد الإختصاصيين فإن الذي يعاني من هذه المشاعر السلبية, يتمنى لو يحظى بكلمة إعتذار ولو مقتضبة, تعيد إليه الكرامة والإعتبار. من جهة أخرى, فقد ثبت بدون ريب أن مسبّب الإساءة يعاني عموماً الصراع نفسه. فالشعور بالخجل والذنب والندم يشعل فيه ناراً تنغّص عليه حياته وتتسبب أحياناً باكتئابه ومرضه. وهو أيضاً يرغب بالقيام بخطوة إيجابية تحرره من عبء مشاعره الهدامة, وتعيد إليه التوازن واحترام النفس.
بهذا تبرز عبارة “أنا أعتذر” كحل سحري يعيد الأمور الى نصابها, إذ يعيد كل من الفريقين الإحترام والثقة والدعم الذي يحتاجه في الحياة الإجتماعية والعائلية.
إساءة المحبين لا يمحوها الإعتذار التقليدي
على كل, يعتقد الخبراء النفسيون أن الإعتذار التقليدي المرافق للديبلوماسية الإجتماعية لا يلائم جميع الظروف والأشخاص والعلاقات. بمعنى أن هذا النوع من الإعتذار لا يفي بالمطلوب في حال الخلاف بين المحبين وأفراد العائلة الواحدة.
فالمعروف أن الإنسان لا يستطيع أن ينسى الإساءة بسهولة, إلا إذا كان يكنّ للمسيء شيئاً من الودّ. والمعروف أيضاً أن حجم الحزن والغضب يتضاعف في حال تلقي الإساءة من حبيب أو قريب. وبالمقابل, يطغى الشعور بالذنب على مسبب الإساءة بشكل قد يفقده صوابه.
من هنا يولي الإختصاصيون العلاقات العائلية والحميمة إهتماماً خاصاً, ويركزون على أهمية تعلّم المعنيين بها طرق الإعتذار السليمة والجديرة بالمحافظة علىها. وهذه الطرق تشمل الإعتذار النابع من القلب, والمقرون بعبارات الود والند, والتوق الى نيل الغفران, الأمر الذي يعيد صهر المشاعر ويغسل القلوب.
أما عندما يهمل القريب أو الحبيب هذه الناحية البالغة الدقة, لسوء تقدير حجم إساءته وإنعكاساته في مشاعر المحيطين به, أو لأسباب أخرى, فمن البديهي أن تتسع هوة الحقد والكراهية بين الفرقاء المعنيين, فتقسو القلوب ويتفرّق الشمل.
كيف نقدّم إعتذاراً مقبولاً؟
هذه وسواها من البديهيات يعرفها الإنسان بالفطرة. مع ذلك يعجز كثيرون عن تقديم الإعتذار المقبول لإعادة المياه الى مجاريها. وهذا يحدث في الغالب بسبب نقص التوجيه في مرحلة الطفولة, بالإضافة الى الإفتقار الى الخبرة والنضج الإجتماعي.
لإلقاء المزيد من الضوء على هذه الناحية الإجتماعية اللافتة, شاء الإختصاصيون تزويدنا ببعض القواعد الأساسية المتبعة لتقديم إعتذار مقبول, والتي نورد أهمها:
* إعطاء تفسيرات توضح النوايا السلمية وراء الخطأ المرتكب, وتقديم إعتذار مقرون بالعاطفة والشعور بالندم والذنب.
* الإعتراف بالمسؤولية الكاملة من دون إلقاء جزء من الملامة على المساء إليه, لأن ذلك يجرّد الإعتذار من مفعوله الإيجابي.
* عندما يرغب مقدم الإعتذار بتوضيح الأمور, وكشف ملابسات الخلاف, وينوي التعبير عما يجول بنفسه لناحية تحميل المساء اليه جزءاً من المسؤولية, من الأفضل اعتماد أسلوب المزاح والمهادنة مع الإبتعاد عن الغضب والجدل العقيم.
* في حال عدم التمكن من تصحيح الخطأ, من الأفضل تضمين الإعتذار وعداً صادقاً بعدم تكرار ما حصل, مع العمل على المساعدة في محو آثار الإساءة قدر الإمكان.
* هـذه البديهيـات التي عرفها الإنسان بالفطرة, وصقلها بالممارسة والتدريب الذاتي, تختصر جزءاً لا يستهان به من كبريائه وسموه, والذي شاء أن يترجمه تواضعاً وسلاماً يحقق السعادة, ويعطي الحياة نكهة مميزة[center]