بكل لغات العالم .. كل عام وأنت طيبة يا ست الحبايب
ما أعجب ذلك الرحم الذي يضمنا معها في جسد واحد لنرتبط بها وترتبط بنا حتى آخر أيام العمر. وبعد الميلاد تظل هي اليد التي تهدهد، والقلب الذي يغفر، والعقل الذي يعلّم في ود ومحبة ورحمة بالغة الانسانية. إنكار الذات، الإيثار، التضحية، العطاء، المشاعر المتدفقة والاهتمام الذي لا يقل لحظة واحدة، كلمات قد توجز معاني الامومة، لكنها لا تمنحها حقها في الوصف والتعبير عنها. ولعل هذا ما أدركه الانسان منذ بدء الخليقة ليوقن أنها نقطة البداية. الاحتفال بعيد الأم قديم قدم البشر على سطح الأرض، وان اتخذ في البدايات مظاهر مختلفة. فالاعتقاد في وجود الآلهة كان بداية الاحتفال بيوم الأم لدى الانسان البدائي الذي نسج الأساطير حول وجود إلهين، أحدهما ذكر والآخر أنثى، اعتقد أنهما قاما بتحريك قرص الشمس في السماء وأمرا النجوم بالتلألؤ ليلا. إلا أن شعب «فريجيا»، الذي عاش في منطقة آسيا الصغرى منذ ما يزيد على السبعة آلاف عام، أضاف لتلك الاسطورة بعض المعاني التي خلدت ذكرى الام، حيث اعتقدوا أن الإلهة «سيبيل» ابنة السماء والأرض هي أم لكل الآلهة الأخرى. ولهذا جعلوا لها يوما في العام لتكريمها من خلال الاحتفال بها وتقديم القرابين لها امتنانا لفضلها عليهم وحمايتها لهم، وهو ما يراه المتخصصون في التاريخ القديم أول احتفال حقيقي لتكريم الأم. وتواصل تكريم الام من خلال اختيار واحدة من الآلهة لدى اليونانيين القدماء الذين وقع اختيارهم على «رهيا» لمنحها لقب الام، لكونها الاقوى بين الآلهة الأخرى، كما كانوا يعتقدون، وكانوا يحتفلون بها مع قدوم احتفالات الربيع. أما الرومان فكانوا يحتفلون بأم كل الآلهة وكانت تسمى «ماجنا ماتر»، وهي كلمة كانت تعني الأم العظيمة. وقد قدس الرومان الماجنا حتى أنهم بنوا لها معبدا خاصا سمي بـ «تل بالاتين»، وكان موعد الاحتفال بها هو الخامس عشر من مارس (آذار) من كل عام وعلى مدى ثلاثة أيام. وكان يطلق على الاحتفال اسم «مهرجان هيلاريا»، حيث كان الرومان يحضرون الهدايا ويضعونها في المعبد كي تبعث الفرح والبهجة في نفس أمهم المقدسة.
في مصر، قدس الفراعنة الام إلى درجة لا ينازعها فيها أحد. وكانت أشهرهن «أيزيس» الأم العظمى التي تقول البرديات انها كانت أخت ووزيرة وزوجة «أوزوريس» الوفية، وقد جلها المصريون وقدروها لأنها قهرت الموت بالحب. وكانت تعبد على أنها «أم الإله» وتمثلها الرسوم الفرعونية بامرأة ترضع طفلاً. وكان الاحتفال بها يتم كل عام مع أعياد الحصاد لأنها كانت رمزا للخير والنماء. وتغير الحال مع انتشار الدين المسيحي، حيث أصبح الاحتفال يقام على شرف الكنيسة الأم في الأحد الرابع من الصوم الكبير لدى المسيحيين، وكان كل مسيحي يشتري هدية ويضعها في الكنيسة التي تم تعميده فيها. وفي الاسلام حظيت الام بمكانة مهمة من دون تحديد يوم للاحتفال بها على أساس أن الاهتمام بها يجب ان يكون على مدار العام لا في يوم واحد فقط. وكانت مقولة الرسول الكريم «أمك ثم أمك ثم أمك»، خير دلالة على مكانتها المبجلة في الإسلام.
في العصور الوسطى اتخذ الاحتفال بعيد الام شكلا جديدا في أوروبا، حين ارتبط بخروج أبناء الاسر الفقيرة للعمل وغيابهم عن أحضان أمهاتهم لكسب قوتهم. وقتها لم يكن مسموحا لهؤلاء الاطفال بأخذ إجازات إلا مرة واحدة في العام، كان هذا اليوم هو الأحد الرابع من الصوم الكبير، الذي كان يعود فيه الأبناء إلى منازلهم لرؤية أمهاتهم ولهذا أطلق عليه اسم «أحد الأمهات». وقد تم التوقف عن الاحتفال بهذا اليوم في أميركا مع غيره من المناسبات في عام 1872 عندما غزاها المستعمرون. وشهد مجيء القرن العشرين عددا من المحاولات لإحياء الاحتفال بيوم الام في الولايات المتحدة الاميركية كان منها محاولة الكاتبة الأميركية «جوليا وارد هاوي»، التي باءت بالفشل. هناك أيضا المعلمة «ماري تاويلز ساسين»، التي تقدمت باقتراح للحكومة الاميركية بأن يقوم الطلاب في كل عام بإعداد برنامج موسيقي لأمهاتهم. إلا أن الاميركيين يرجعون فضل الاحتفال بهذا اليوم الى امرأة تسمى «آنا جارفيس». ولدت آنا في عام 1864 في مدينة جرافتون الواقعة غرب ولاية فيرجينيا، وعندما بلغت من العمر عاما، كانت الكراهية تشتعل بين العائلات عقب انتهاء الحرب الأهلية، وكانت آنا تسمع والدتها تقول: «في وقت ما، وفي مكان ما، سينادي شخص ما بفكرة الاحتفال بعيد الأم»، في اشارة إلى أن الاحتفال بهذا اليوم قادر على ازالة الضغائن ومحوها بين العائلات. بعد وفاة والدتها قررت آنا أن تحول مقولة الأم إلى واقع، فأقسمت لنفسها أن تكون ذلك الشخص الذي يحقق رغبة الأم بإقرار السلام في مدينتها. فتقدمت بطلب إلى عمدة المدينة في عام 1907، لإصدار أوامره بإقامة احتفال سنوي لعيد الأم يكون موعده 12 مايو (أيار) من كل عام. وهو ما حدث ليكون بذلك أول احتفال لعيد الأم في الولايات المتحدة الأميركية. ولم تكتف آنا بهذا الإنجاز، فقد استمرت في كتابة الخطابات التي نادت فيها بأن يكون عيد الام عيدا قوميا في كل ولايات أميركا. وهو ما تحقق بنسبة كبيرة بحلول عام 1909. وفي 9 مايو (أيار) من عام 1914، أصدر الرئيس الاميركي ويلسون قرارا بإعلان الاحد الثاني من شهر مايو (أيار) من كل عام موعدا للاحتفال بعيد الأم في جميع الولايات. بعد نجاحها في الولايات المتحدة، بدأت آنا بكتابة الخطابات والمناداة بجعل عيد الام عيدا عالميا تحتفل به كل شعوب العالم، الأمر الذي تحقق في عام 1948، حيث أقرت أكثر من 40 دولة على مستوى العالم الغربي والعربي فكرة الاحتفال بيوم خاص بالام. الطريف أن الزعيم النازي أدولف هتلر، كان عاشقا لأمه، إلى حد أنه جعل يوم ميلادها، هو يوم الاحتفال بعيد الام في ألمانيا، رغبة منه بأن يحتفل به الشعب الالماني كله. في مصر عاد الاحتفال بيوم الام، على يد الصحافيين الراحلين مصطفى وعلي أمين، اللذين كانا إلى جانب عشقهما وولعهما بوالدتهما، شديدا التأثر بكل الامهات، وهو ما دفعهما إلى التفكير في فكرة عيد الام، عندما تلقيا رسالة من امرأة مسنة تشكو لهما جفاء أولادها وسوء معاملتهم لها. وتصادف بعدها أن زارت إحدى الأمهات مصطفى أمين في مكتبه، وحكت له قصتها التي تتلخص في أنها ترملت وأولادها صغار، فلم تتزوج، وأوقفت حياتها على أولادها، تقوم بدور الأب والأم، بكل طاقتها حتى تخرجوا في الجامعة وتزوجوا واستقل كل منهم بحياته ولم يعودوا يزورونها إلا على فترات متباعدة للغاية. فكتب مصطفى أمين وعلي أمين في عمودهما الشهير «فكرة»، يقترحان تخصيص يوم للأم يكون بمثابة تذكير بفضلها، مشيران الى أن الغرب يفعل ذلك، وإلى أن الإسلام يحض على الاهتمام بالأم، فانهالت الخطابات عليهما تؤيد الفكرة، وشارك القراء في اختيار يوم 21 مارس (آذار)، أول أيام فصل الربيع، ليكون رمزا للتفتح والصفاء والمشاعر الجميلة. وشهد عام 1956 أول احتفال لمصر في العصر الحديث بهذا اليوم.